Posted in مقالات محلية

مجنون حارتنا


نظراً للملاحظات واضيقاق المساحة التي يبقيها الرقيب وللضرورات الفنية كان الأدب يلجأ أحياناً لإدخال شخصية المجنون لشخوص العمل الأدبي ، فيطلع علينا مجنون الحارة أو الحي أو القرية بشكل وعبارات يرددها فتنسجم تماماً مع روح ونص العمل لا بل يصير عنواناً لها يذكر بها في كل حين، أما الآن والحمد لله فلا داعي للإغراق بالمطالبة بتلك الشخصية إلا بمقدار حقيقتها أو لمتطلباتها الفنية وبمقدار الهامش الذي تتأهب دونه ما تبقى من نظرات الرقيب.

في حارتنا مجنون ليس للترميز أو لضرورات أدبية، بل أعانه الله وكفى، أقنعنا نحن مجاوروه ومما حكوه ومعاصروه ومعاقروه أربعة فصول في السنة بأننا نحن العاقلون وهو المجنون، صديقنا هذا يصرخ كما يشاء وبما يشاء ووقت يشاء بلا رقيب و لا حسيب ، ويطلب حين يشاء دون تردد لا مستجدياً ولا حرجاً ما يشاء بفعل جنونه وبفعل نظرة أن له مال معلوم في جيبنا ومالنا وحدقات عيوننا.

ذات مساء إذ كان صوته يتطاير في كل الاتجاهات يعصف بسكون الليل و العتمة ، استوقفني ذاك الأشعث الملتحي كظاهرة صوتية مجلجلة تمتلك الحرية بلا منازع، ذهبت بي نشوة الاكتشاف حتى كدت أحرضه على الحكومة التي رفعت أسعار المحروقات في سلسلة من مراحل موجعة متتالية في شيء من القدر الذي يتدحرج بتسارع من السماء على كاهل و أعناق المواطن ليزيد شقاءه شقاء في موجة غلاء تبشر بالمزيد و أبشره بان الحكومة الجديدة و الحمد لله قد التقت من أجل ذلك بالنقابات والأحزاب وفعاليات متعددة حتى يمرروا معها هذه الموجه الكاسرة من تسو نامي الغلاء، لكنني استدركت بان هذا الأمر لا يعنيه كما لا تعنيه مسألة الرفاه الاجتماعي بمعادلة حر الصيف و قر الشتاء…ينام ليلاً ملتحفاً السماء أو متدثراً مطراً أو برداً تشرينياً، هو الرجل الذي يخافه أطفالنا في انتصاب حدقاتهم لحكايا الجدات ، وهو قابع بخوفه في زوايا الحلكة وسكون الكمون خائفاً مخيفاً تنشده العقول فتلوذ بالضحك على استحياء والتندر بخفيه غائرة وتلاحقه صبية بالحجارة وعبث طفولتهم وبكل تأكيد يرون فيه دمية أثمن من باربي أو ما يساويها.

في الليلة التالية جالست مجنون حارتنا فبدأت أحدثه عن تسونامي وزلزال ريختر وإعصار كاترينا وان الله معنا إذ يدرأ عن أوطاننا كثيراً من الكوارث الطبيعية لألا نحتار بتسميتها فإذا أتانا إعصار وضحه يطلع علينا صاحب النصيب زوجها فيقول لا تبتلوني بإعصاريين مرتين على الأثر.

حدثته عن تاريخ امتنا العربية وحقه الطبيعي في أن يرفع عقيرته منشداً بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان.

عدت فذكرته بمحمود أحمدي نجاد ووقوفه بإيران على حافة الصراع مع أمريكيا ، و بقفزة ممتهن انتقلت إلى أفغانستان وأسامة بن لادن ومعتقل غوانتنامو وأحداث أيلول وبريطانيا وكارثة العراق جرحنا النازف أبدا وكوفي عنان وبلير وبوش وجونزاليسا رايس ، وعرجنا مباشرة معاً على قرار 1559 وفؤاد السنيورة والشهيد الحريري والشهيد الحي، والعد التنازلي لكشف الحقيقة في لبنان .

مباشرة انتقلت بالحديث الرشيق مع صديقي المجنون إلى الشريط الذي ينسل في أسفل الشاشات الفضائية إلى عقر بيوتنا وبين أهلينا بشكل دائم يتطاول لحظياً وأولاً بأول على عادتنا وتاريخنا بحركة وسرعة دائمة تتوثب للقفز من العذرية إلى الصريح على مرأى من الأب وألام والأسرة بكل أطيافها ومقاساتها و رقابتها منتهية المفعول ، وأخيراً رحت به إلى فلسطين الحبيبة كيف أحيا بعيداً عن السهول والهضاب والى القدس عروس عروبتكم ، حاولت الخوض في كفر قاسم ودير ياسين وصبرا وشتيلا وعناقيد الغضب لكنه صرخ ضيقاً وسأماً مبتغياً الرحيل.

أيقنت حينها حق شاعر العروبة سميح القاسم حين قال:

مجنون ليلى واحد بعذابه          وأنا عذابي أمة ليلاء

قررت حينها التوقف فوراًً ليس فقط عن الكلام غير المباح ، وإنما عن أي كلام بما في ذلك كلامنا المباح.

Share this:
Share this page via Email Share this page via Stumble Upon Share this page via Digg this Share this page via Facebook Share this page via Twitter

Author:

د. تيسير ابو عاصي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *